أثار مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي في جدة غضبا عارما بعد إعلانه عن عرض فيلم يصور علاقة مثلية بين امرأتين، إذ تأتي هذه الخطوة في ظل سعي ولي العهد محمد بن سلمان المستمر لتفكيك الطابع المحافظ للبلاد ضمن رؤية 2030 وتحت شعار الانفتاح الثقافي والترفيهي.
يندرج الجدل حول مبيعات تذاكر فيلم إيروبيا “Erupcja” في إطار ما يصفه النقاد بمحاولة أوسع نطاقا “لإعادة تشكيل المجتمع” من خلال استيراد قيم ونماذج ثقافية أجنبية، مع تفكيك الأسس الدينية والاجتماعية الراسخة في الوقت نفسه.
مهرجان البحر الأحمر ومجتمع الميم
وفقا لمنصات تقييم الأفلام الشهيرة مثل “IMDb“، يحكي الفيلم المعروض ضمن مهرجان البحر الأحمر، عن “علاقة عاطفية بين بائعة زهور بولندية وسائحة بريطانية” ويصنف على أنه دراما لمجتمع الميم، حيث جاء في الوصف على المنصة “الكيمياء القابلة للاشتعال بين بائع الزهور البولندي والسائحة البريطانية في هذه البطاقة البريدية الساحرة من التزامن السحاقي”.
ويشارك في بطولة الفيلم المغنية البريطانية تشارلي إكس سي إكس، التي تعتبر وفقا لموقع “PinkNews” رمزا في مجتمع المثليين، وتشتهر بالجرئة والإثارة التي تتناقض بشدة مع الأعراف المحافظة، مما يجعل حضورها في حدث سعودي رسمي ذا صدى سياسي يتجاوز رمزيته الثقافية.
وبما أن مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي يُقام في مدينة جدة وهي إحدى المدن الرئيسية في الحجاز ارتبطت منذ زمن طويل ببيئة اجتماعية متماسكة ومحافظة، فقد شكل عرض مثل هذا الفيلم صدمة كبيرة للكثيرين من الداخل والخارج، إلا أنه بالرغم من إثارة الإعلانات الترويجية غضبا داخل وخارج المملكة السعودية، التزمت الجهات الرسمية الصمت مما عزز الاعتقاد بأن العرض لم يكن خطأ عابرا، وإنما كان خيارا مقصودا يتماشى مع توجهات القيادة الجديدة.
ويشير النقاد بأن عرض فيلم بهذا المحتوى ما هو إلا خطوة أخرى في مسار سياسي أوسع نطاقا يطمس الخط الفاصل بين “الانفتاح الثقافي” و”تآكل الأعراف الاجتماعية” وهو مسار اتبعه ولي العهد لسنوات من خلال الترفيه والسياحة والمهرجانات والإنتاج الفني المستورد.
ويؤكدون أن عملية التدهور الأخلاقي والثقافي هذه بعرض مثل هكذا أفلام وترويج لما تحمله من أفكار، يشكل تحديا مباشرا لقيم الناس، وخاصةً أن من يقوم عليها هو الديوان الملكي بنفسه لا جهات خاصة مستقلة ويحميها أفراد أمن من الشعب وتمول من الضرائب التي يدفعها الشعب، ونتيجة لذلك يجد المواطنون أنفسهم متأثرين ومجبرين على تحمل الفساد المفروض عليهم. وهنا يصر العديد من السعوديين على أنه من غير المقبول على الإطلاق أن يقبل مجتمع نشأ على الحياء والاستقامة ترويجا حكوميا للمثلية الجنسية.
تغيير هوية المملكة
سبق لولي العهد السعودي محمد بن سلمان أن استقدم فنانين متهمين بالمثلية، ونظم فعاليات اتسمت بالعري والفجور، لكن هذه هي المرة الأولى التي يعلن فيها عن تأييد صريح للمثلية الجنسية بهذه الجرأة وفي منطقة لا تبعد سوى مسافة قصيرة عن المسجد النبوي الشريف.
ومنذ إنشاء الهيئة العامة للترفيه، تسارعت الجهود الرامية إلى إدخال نموذج ثقافي مختلف جذريا عن طبيعة المملكة المحافطة من خلال الحفلات الموسيقية المختلطة والعروض الموسيقية العالمية وعروض الرقص والفعاليات التي تعتبرها شرائح كبيرة من المجتمع غير متوافقة جوهريا مع هويتهم.
ويسعى ولي العهد السعودي إلى تقديم نفسه كشخصية حداثية للجمهور الغربي، لا سيما في أعقاب الانتقادات المتعلقة بمقتل جمال خاشقجي، والحرب في اليمن، وقضايا الاعتقال المختلفة.
ويعتبر العديد من المحللين أن ولي العهد يستخدم المهرجانات مثل مهرجان البحر الأحمر ومهرجان ساوندستورم وموسم الرياض، كأدوات استراتيجية لتطبيع ثقافة جديدة مبنية على القيم الليبرالية الغربية، وهدم النظام الاجتماعي المحافظ لصياغة صورة جديدة للمملكة في الخارج تنافس دبي كمركز ترفيهي وتهمش التيارات الدينية والاجتماعية التي شكلت حكم البلاد لعقود.
ويقول مراقبون إن هذه المهرجانات السينمائية ليست أحداثا ثقافية معزولة، بل هي جزء من مشروع أوسع لإعادة تشكيل المشهد الاجتماعي من خلال فعاليات ليبرالية تعرض أعمالا لم تكن لتخطر على بال أحد بالمملكة المحافظة قبل فترة وجيزة.
وتعد المهرجانات الفنية كمهرجان البحر الأحمر، منصات لإيصال رسالة إلى العواصم الغربية مفادها أن المملكة “حديثة ومتسامحة ومنفتحة”. ولكن رغم إشادة الكثير من الغربيين يهذا الانفتاح إلا أنهم وجهوا له انتقادات تتعلق بتعريفه الضيق، إذ يقتصر على الترفيه والموضة والسينما والعروض الفنية بينما يصرف النظر عن الإصلاحات السياسية أو المتعلقة بحقوق الإنسان ولا يسمح بالتنوع الفكري الهادف أو حرية التعبير.
يتساءل كثير من السعوديين: كيف يعرض فيلم يروج للعلاقات المثلية في بلد لا تزال قوانينه تجرم أفعالا تعتبر مخالفة للمبادئ الإسلامية؟ ومن المُستفيد من الترويج لمثل هذا المحتوى في مهرجان مدعوم حكوميا؟
تسلط هذه الأسئلة الضوء على اعتقاد متنامي بأن الفعاليات المقدمة في هذه المهرجانات لم تعد مجرد عروض ترفيهية بل أدوات لفرض أجندات ثقافية تتعارض مع المجتمع متجاهلة تماما المؤسسة الدينية والفكرية المحافظة والرأي العام الرافض لهذه الأفكار.
ختاماً، عرض فيلم إيروبيا “Erupcja” في مهرجان البحر الأحمر بجدة ليس حدثا منعزلا بل جزء من تحول شامل يقوده محمد بن سلمان الذي يواجه اتهامات بفرض نموذج ثقافي غربي على مجتمع محافظ واستخدام المهرجانات لهندسة واقع اجتماعي جديد مع تفكيك الأعراف الراسخة تحت مظلة الانفتاح. ومع استمرار المهرجان في الترويج لهذا الاتجاه الثقافي يتصاعد الإحباط العام إزاء ما يصفه الكثيرون بأنه “مشروع سريع لمحو الهوية”.
المصدر: مسقط 24
