طغى في الأيام القليلة الماضية على الأوساط الإقليمية والدولية خبر استئناف المفاوضات بين إيران وأمريكا في سلطنة عمان، وهو مايعد تحول سياسي بارز بعد فترة طويلة من التوترات والتصعيدات الإقليمية والدولية. هذه العودة إلى طاولة الحوار لم تأت من فراغ، بل جاءت نتيجة تغيرات استراتيجية فرضت نفسها على الجانب الأمريكي، وجعلته أمام خيار وحيد ألا وهو: التفاوض.
تعاظم قدرات إيران السياسية والعسكرية والاقتصادية، إضافة إلى الواقع الجيوسياسي المتغير في منطقة غرب آسيا مع ثبات الموقف الإيراني في وجه العقوبات والتهديدات، أظهر مدى التغير في ميزان القوى. وبالفعل، اضطرت الولايات المتحدة الأمريكية، التي لطالما تبنت سياسة “الضغط الأقصى”، إلى التراجع خطوة إلى الوراء وقبول الحوار بشروط أقرب إلى الرؤية الإيرانية منها إلى ما كانت تطمح إليه واشنطن.
ومن جهة أخرى، لم تُخفِ دولة الاحتلال الصهيوني غضبها وسخطها من استئناف المفاوضات بين الجانبين الإيراني والأمريكي بل وأعتبرتها تهديدا لمصالحها الاستراتيجية والأمنية وخطوةً في صالح إيران تُعزز من مكانتها ونفوذها الإقليمي. فماذا يجري خلف الكواليس؟ وما هي الرسائل الخفية التي يمكن قراءتها بين سطور هذه المفاوضات؟
عودة إلى المفاوضات تحت الضغط
قرار الإدارة الأمريكية بالعودة إلى طاولة المفاوضات مع إيران عبر طرف ثالث اختارته طهران (سلطنة عمان)، لم يكن بدافع النية الصافية أو الرغبة في التهدئة فحسب، بل كان نتيجة مباشرة لعدة عوامل ضاغطة، أبرزها:
- الفشل الذريع لسياسة الضغط الأقصى: منذ انسحاب الإدارة الأمريكية من الاتفاق النووي خلال الفترة الرئاسية الأولى لترامب عام 2018، وفرضها عقوبات اقتصادية غير مسبوقة على طهران، لم تحقق واشنطن أية نتائج استراتيجية ملموسة. فطهران لم تنهار بل على العكس، استطاعت أن تُكيّف اقتصادها مع العقوبات المفروضة وكذلك طورت من قدراتها العسكرية لا سيما في مجال الطائرات المسيرة والصواريخ الباليستية.
- تنامي الدور الإقليمي لإيران: من بغداد إلى دمشق، ومن بيروت إلى صنعاء، أثبتت طهران حضورا قويا، وتمكنت من تعزيز نفوذها الاستراتيجي عبر تحالفات وشبكات مقاومة فاعلة رغم استقلالية قرارها، مما جعل أي مشروع أمريكي في المنطقة غير قابل للنجاح دون التفاهم أو التنسيق مع إيران بطريقة أو بأخرى.
- التحولات الدولية وتغير الأولويات الأمريكية: الانشغال الأمريكي المتزايد بالحرب في أوكرانيا، وتصاعد التوتر مع الصين في المحيط الهادئ إضافة إلى الحرب التجارية الباردة الساخنة، ووضع الشرق الأوسط على شفى حفرة من النار، جعل من الضروري تخفيف المواجهة مع إيران من أجل إعادة توزيع الأولويات والموارد.
الردع الإيراني.. من القوة إلى الفاعلية
إيران لم تأتِ إلى طاولة الحوار وهي في موقع ضعف، وإنما على العكس من ذلك، فهي الآن في موقع قوة نسبية، نتيجة عوامل عديدة أهمها:
- تقدم البرنامج النووي الإيراني: استطاعت طهران أن ترفع نسبة تخصيب اليورانيوم إلى مستويات مقلقة للغرب، وأثبتت أنها قادرة على تسريع وتيرة البرنامج في حال عدم التوصل إلى اتفاق يراعي مصالحها وشرعية حصولها السريع على السلاح النووي في حال تعرضها لأي لهجوم عسكري.
- تطوير الصناعات العسكرية المحلية: طورت طهران ترسانتها العسكرية بشكل ملحوظ جدا خلال السنوات الماضية، خاصة في مجال الطائرات المسيرة والصواريخ الباليستية، وهو ما جعلها تمتلك قوة ردع حقيقية أمام أي تهديد عسكري محتمل من أمريكا أو الكيان الصهيوني.
- الحضور الميداني الفاعل في الإقليم: من خلال دعمها المباشر وغير المباشر لحركات المقاومة في لبنان وفلسطين واليمن، باتت إيران قوة لا يمكن تجاوزها في معادلات المنطقة رغم إعلان هذه الحركات استقلاليتها التامة وحرية قرارها.
- هذه العوامل جعلت من إيران طرفا قويا في المفاوضات، الأمر الذي انعكس على نبرة الخطاب السياسي الإيراني، الذي يؤكد دائما أن “أمريكا هي من طلبت التفاوض” وليس العكس.
إسرائيل.. الخاسر الأكبر
من الواضح أن الطرف الأكثر قلقا وسخطا من المفاوضات هو الكيان الصهيوني. فمنذ الإعلان عن بدءها، تصاعدت وتيرة التصريحات الغاضبة من المسؤولين الإسرائيليين، الذين رأوا في الأمر تكرارا لأخطاء سابقة، عندما وقعت أمريكا الاتفاق النووي عام 2015، وذلك بحسب المصادر الإسرائيلية يعود إلى:
- قلق استراتيجي من رفع العقوبات: تخشى دولة الاحتلال من أن تؤدي المفاوضات إلى تخفيف الضغوط الاقتصادية على إيران، مما يتيح لها ضخ المزيد من الموارد لدعم حلفائها في المنطقة، وكذلك تنامي قدراتها العسكرية والتكنولوجية وهو مايؤثر بشكل مباشر على أي صدام عسكري مستقبلي بين الطرفين.
- مخاوف أمنية من الاتفاق النووي الجديد: رغم ادعاءات بعض المسؤولين الأمريكيين بأن أي اتفاق خلال المفاوضات بين إيران وأمريكا سيكون “أقوى وأطول”، ترى دولة الاحتلال أن مجرد العودة إلى الاتفاق هو فشل ذريع للسياسة التي تم تبنيها طيلة السنوات الماضية.
- إضعاف محور التطبيع: الاتفاق مع طهران قد يعيد رسم خريطة التحالفات في المنطقة، ويضعف مسار “اتفاقات إبراهام” التي كانت تسعى إلى تطويق إيران عبر تحالف عربي-إسرائيلي قائم على أن إيران هي الخطر الأساسي عليهم وثبوت عكس ذلك خلال الحرب على غزة.
قراءة بين السطور!
هناك عدة مؤشرات يمكن استخلاصها من توقيت وسياق المفاوضات الحالية:
- الحفاظ على الثوابت وعدم التنازل: بحسب العديد من المصادر، رغم الضغوط لم تبد طهران أي تراجع عن خطوطها الحمراء، سواء فيما يخص رفع العقوبات أو الضمانات بعدم الانسحاب الأمريكي من أي اتفاق مستقبلي.
- موقف دفاعي لأمريكا: للمرة الأولى، لم تكن واشنطن هي التي تضع الشروط، بل تسعى لتقليل الخسائر وتجنب الانفجار الكبير في المنطقة.
- إيران تستثمر الوقت والقدرة: في ظل غياب اتفاق بين الطرفين وانحساب واشنطن السابق، واصلت إيران تطوير قدراتها النووية، مما يجعل من التفاوض وسيلة لإدارة الوقت وليس لتقديم التنازلات.
- الرسائل الموجهة إلى الداخل والخارج: المفاوضات بين إيران وأمريكا الحالية ترسل رسائل مهمة للرأي العام الإيراني، مفادها أن قوة البلاد وثباتها هما ما أجبر الطرف الأمريكي لطلب العودة إلى طاولة المفاوضات، وليس العكس.
خاتمة
المفاوضات بين إيران وأمريكا الجارية حاليا ليست مجرد محادثات تقليدية وتبادل وجهات نظر للوصول إلى حل وسطي يعيد إعادة إحياء الاتفاق النووي، بل هي معركة سياسية واستراتيجية تحمل بين طياتها أبعادا أعمق بكثير.
فالولايات المتحدة التي لطالما حاولت فرض إرادتها على إيران طيلة العقود الماضية، وجدت نفسها اليوم مضطرة للعودة إلى طاولة الحوار والتنازل، وذلك بشروط جديدة يفرضها الواقع لا الرغبات الأمريكية.
أثبتت طهران عبر ثباتها بوجه كل أشكال الحصار والتهديد، أنها قادرة ليس فقط على الصمود بل على فرض المعادلات والتأثير في القرارات أيضاً.
وأما دولة الاحتلال الصهيوني التي تراقب المفاوضات بين إيران وأمريكا عن كثب وبقلق وسخط، فقد بدأت تدرك أن موازين القوى في المنطقة لم تعد تميل لصالحه كما في السابق، وأن إيران اليوم تُفاوض من موقع قوة أكثر من ذي قبل.
ما بين السطور هو بدء مرحلة جديدة من التوازنات، حيث باتت الدول اليوم تقاس وتقيم على أساس القدرة والردع لا على أساس الانصياع والخوف. وثبت أن طهران برؤيتها الثابتة وقدراتها المتنامية تدخل هذه المرحلة وهي أكثر استعدادا من أي وقت مضى.
المصدر: مسقط برس