في مشهد يفضح عمق مسار التطبيع في المنطقة، خرج سفير الاحتلال لدى البحرين المنتهية ولايته، إيتان نائيه، ليعرض بالأرقام ما أسماه “إنجازات العلاقات الاقتصادية” بين المنامة وتل أبيب منذ توقيع اتفاقية أبراهام عام 2020، وحتى منتصف عام 2024، وذلك في ظل استمرار حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة.
الأرقام التي كشف عنها نائيه لم تكن مجرد مؤشرات اقتصادية عابرة، بل وثيقة إدانة للنظام البحريني الذي لم يكتف بالصمت على جرائم الاحتلال، بل فتح أبوابه لتجذر العلاقات التجارية، حتى بدا أن دماء الفلسطينيين لم تشكل عائقا أمام توسع الاستثمارات وصفقات الاستيراد والتصدير.
سفير الاحتلال لدى البحرين: أرقام صادمة
بحسب ما أعلنه سفير الاحتلال لدى البحرين، فقد ارتفعت صادرات إسرائيل إلى المنامة بمعدل سنوي بلغ 2,140% خلال خمس سنوات. إذ انتقلت من صفر دولار في عام 2018 إلى 5.65 مليون دولار في عام 2023.
هذه الطفرة ليست مجرد توسع اقتصادي، بل تكشف إرادة سياسية واضحة لدى النظام البحريني لإدماج إسرائيل بشكل كامل في اقتصاده، في وقت كانت فيه غزة تُقصف بلا هوادة ويحاصر أطفالها حتى الموت.
في المقابل، لم تكن التجارة من جانب واحد؛ فقد ضخت البحرين صادرات إلى تل أبيب بقيمة 16.5 مليون دولار في عام 2023، بعد أن كانت صفرا عام 2018، أي بزيادة مذهلة وصلت إلى 2,680% سنويا. وهذا يوضح أن العلاقة التجارية بين الطرفين لم تكن شكلية أو محدودة، بل متبادلة، بما يعكس تقاربا استراتيجيا هدفه تثبيت التطبيع وتحويله إلى شبكة مصالح يصعب التراجع عنها.
علاقات رغم الحرب حرب غزة
تقرير صدر في سبتمبر/أيلول 2024 أشار بوضوح إلى أن هذه القفزة في العلاقات الاقتصادية لم تتوقف رغم حرب الإبادة على غزة. فقد بلغ حجم التجارة الثنائية 16.8 مليون دولار في يونيو/حزيران 2024، بزيادة بلغت 740% مقارنة بالشهر نفسه من عام 2023. والأكثر صدمة أن حجم التبادل التجاري في النصف الأول من 2024 وحده وصل إلى 70.5 مليون دولار، أي بزيادة 879% عن الفترة نفسها من العام السابق.
هذه الأرقام التي أعلنها سفير الاحتلال لدى البحرين تعني أن الدم الفلسطيني لم يكن عائقا، بل ربما كان خلفية يتكئ عليها الطرفان لإبراز “قوة العلاقات الاقتصادية”. وكأن الرسالة المبطنة أن الحرب لا توقف الصفقات، بل قد تمنحها زخما جديدا.
ولا يمكن فصل ما كشفه سفير الاحتلال لدى البحرين عن السياق الخليجي الأشمل، حيث قادت الإمارات مسار التطبيع الاقتصادي، وجرت خلفها البحرين، فيما تبقى السعودية حاضرة في الكواليس. البحرين تحديدا، بوصفها دولة صغيرة ذات نفوذ محدود، بدت بمثابة حقل تجارب لتمرير خطوات صادمة وصدامية مع المزاج الشعبي الرافض للتطبيع، دون اكتراث بالرفض الداخلي أو المخاطر الاستراتيجية.
ومن اللافت أن هذه التطورات تزامنت مع إعلان البحرين في نوفمبر 2023 عن سحب سفيرها من تل أبيب وقطع العلاقات الاقتصادية رسميا احتجاجا على جرائم غزة، لكن ذلك لم يمنع نائيه من كشف الأرقام الصادمة بعد أقل من عام، بما يعكس ازدواجية واضحة بين الشعارات الرسمية والخطوات العملية التي عززت التطبيع اقتصاديا.
التطبيع في مواجهة الدم الفلسطيني
من أكثر المشاهد إثارة للغضب أن هذه الصفقات أعلنت بينما كانت غزة تحترق بالقصف الإسرائيلي. ففي الوقت الذي كانت فيه الطائرات الإسرائيلية تحول الأحياء إلى ركام، وتدفن العائلات تحت الأنقاض، كانت الصادرات البحرينية تتدفق نحو إسرائيل، وصادرات الاحتلال تتجه نحو المنامة.
هذا التناقض الفج بين المجازر في غزة وبين “الاحتفال التجاري” في المنامة يكشف جوهر مشروع التطبيع: لغة المال والمصالح على حساب كل القيم الإنسانية والالتزامات القومية. وهنا يصبح حديث “المصالح الوطنية” مجرد غطاء لمشروع اندماج اقتصادي كامل مع الاحتلال.
لقد كشف سفير الاحتلال لدى البحرين أن التطبيع لم يعد شعارا سياسيا فقط، بل أصبح شبكة مصالح مترابطة يصعب التراجع عنها، وهو ما يشكل خيانة مزدوجة: خيانة للشعوب العربية التي ترفض التطبيع، وخيانة لفلسطين التي تدفع الثمن دما وحصارا يوميا.
فالمعادلة واضحة: كل دولار يدخل عبر التبادل التجاري مع إسرائيل، هو رصاصة إضافية في صدر غزة، وكل صفقة تجارية تمر عبر الموانئ البحرينية، هي مشاركة غير مباشرة في تمويل آلة الحرب الصهيونية.
ختاماً، إعلان سفير الاحتلال لدى البحرين لم يكن مجرد استعراض اقتصادي، بل وثيقة إدانة صريحة لمسار التطبيع الذي تبنته المنامة، حتى في أحلك الأوقات التي يمر بها الشعب الفلسطيني. لقد تحولت البحرين إلى نموذج تطبيع كامل، أرقام صادمة، ومصالح متشابكة، وصمت رسمي على الجرائم. وبينما يحاول النظام تبرير هذا الانخراط تحت مسمى “المصالح الوطنية”، يظل الواقع أن النتيجة الوحيدة هي مزيد من الخيانة لفلسطين، ومزيد من الضعف للأنظمة التي ارتمت في حضن الاحتلال.
المصدر: مسقط 24
