الاعتراف بدولة فلسطينية: بين الرمزية والمضمون السياسي الواقعي

الاعتراف بدولة فلسطينية

في سياق متصاعد من التوترات الدموية والصراع المستمر، برز ملف الاعتراف بدولة فلسطينية كقضية محورية في الساحتين الدولية والعربية، لكنه بات موضع جدل حاد بين من يراه خطوة تاريخية ضرورية ومن يراه مجرد إعلان بلا مفعول.

وفي مقال جديد نشرته صحيفة “نيويورك تايمز“، لرئيس المبادرة الوطنية الفلسطينية مصطفى البرغوثي، انتقد بشدة ما وصفه بـ”الرمزية الفارغة” لاعتراف بعض الدول الغربية مؤخراً بدولة فلسطين، معتبراً أن هذه الخطوات لن تحمل قيمة حقيقية ما لم تكون مترافقة مع محاسبة الاحتلال.

الاعتراف بدولة فلسطينية: إعلان دولي بلا مضمون؟

مصطفى البرغوثي، وصف الاعترافات الغربية الحديثة بفلسطين بأنها “رمزية فارغة” ما لم تترافق مع إجراءات ضاغطة تلوح بعواقب على إسرائيل. رغم أن دولا ككندا، بريطانيا، أستراليا والبرتغال أعلنت اعترافها الرسمي، مما رفع عدد الدول التي تعترف بفلسطين إلى نحو 150 دولة، فإنّ هذه الخطوة، في رأيه، لا تغير كثيرا من معاناة الفلسطينيين اليومية.

ففي غزة، يستمر القصف والتدمير، وفي الضفة الغربية تتسارع عملية الاستيطان والتوسع، وهي ممارسات تؤكد، في نظره، أن “حل الدولتين” لم يعد إلا شعارا قديما بلا تأثير فعلي.

وقد لاقى هذا المنظور تأييدا من تقارير إعلامية حديثة تؤكد أن الفلسطينيين يبدون “شكا عميقا في قدرة هذه الاعترافات على تغيير الواقع على الأرض، معتبرين أنها تشكل دعما رمزيا أكثر من كونها فعلا تغييريا حقيقيا.

خنق الأفق السياسي

من أبرز الأمثلة التي ذُكرت في مقال البرغوثي، هو مشروع E1 شرق القدس، الذي صادقت عليه الحكومة الإسرائيلية في أغسطس الماضي، ويعد مدمرا لربط الضفة الغربية باتجاهات فلسطينية متصلة. البرغوثي أوضح أن إسرائيل لم تُعلق المشروع احتراما للقانون الدولي، بل نتيجة ضغوط دبلوماسية، وأن استئنافه يشكل تحديا صارخا.

إلى جانب ذلك، وافقت الحكومة الإسرائيلية على إنشاء 22 مستوطنة جديدة هذا العام، كجزء من سياسة ممنهجة تهدف إلى تفكيك أي إمكانية لإقامة دولة فلسطينية متصلة جغرافيا.

وهذه التطورات الاستيطانية المكثفة تُعد من أهم العوائق التي تعترض أي محاولة جادة لتحويل الاعتراف بدولة فلسطينية إلى واقع ملموس.

بين التدمير والتهجير

قطاع غزة، الذي شهد منذ أكتوبر 2023 تدميرا واسعا، بات، وفق وصف البرغوثي، “غير صالح للحياة”. في خطابه، يستشهد باعتراف رئيس الوزراء الإسرائيلي بأن التدمير سيجبر السكان على الهجرة، ويعتبر ذلك مظهرا من مظاهر التهجير القسري المعاصر، بل إنه نسخة جديدة من “النكبة”.

في المقابل، المنظمات الحقوقية الدولية وصفت العدوان على غزة بأنه يقارب في بعض جوانبه مفهوم الإبادة الجماعية، وهو التصنيف الذي يضع الأبعاد القانونية والإنسانية أمام اختبار صارم.

حين نقارن بين الكارثة على الأرض وبين الاعترافات التي تصدر في عواصم الغرب، نجد فجوة ضخمة بين الشعارات التي تقول “ندعم حق الفلسطينيين في دولة” والوقائع التي تفرض استمرار الحصار، التدمير، والحرمان.

من إعلان إلى أدوات ضغط 

وفق البرغوثي، أي اعتراف بدولة فلسطينية يجب أن يتحول إلى أداة ضغط واجبة التنفيذ. وفق ثلاثة مسارات رئيسية:

وقف الحرب والتطهير العرقي: يجب أن تُوقف أو تُقيد العمليات العسكرية التي توصف بأنها إبادة جماعية، والإجراءات التي تؤدي إلى تهجير الفلسطينيين في الضفة وغزة.

ممارسة عقوبات جدية على إسرائيل: مالية، عسكرية، حظر تصدير السلاح، وفرض قيود على التعاون الاقتصادي والسياسي.

كسر فكرة أن الحرية مشروطة بموافقة إسرائيل: لا يمكن أن يكون التفاوض متكافئا طالما أن الاحتلال هو المتحكم في الشروط، لذا يجب أن يكون الضغط الدولي مستقلا، لا مرتبطا برضا إسرائيل.

لكن العبرة ليست فقط في الطرح النظري: فعلى الحكومات التي تعلن الاعتراف أن تتحمل التزاما حقيقيا على الأرض، وإلا يبقى الاعتراف مجرد ورقة مطوية في أدراج السياسات.

الاعتراف بفلسطين بين الرمزية والخطوات الجدية

تجربة جنوب أفريقيا ومواقف الدول المتناقضة

البرغوثي يستلهم من تجربة جنوب أفريقيا في مواجهة نظام الفصل العنصري، ويعتبرها نموذجا يُحتذى به في فرض عزلة سياسية واقتصادية على نظام الظلم. ومع اختلاف السياقات السياقات والفوارق في الدعم الخارجي والقدرات العسكرية، إلا أن هذه المقارنة تستخدم لترسيخ فكرة أن السلام لا يُبنى بالمناشدات وحدها، بل عبر عقوبات وإنزال ثمن سياسي واقتصادي على الاحتلال.

ومع أن العديد من الدول الغربية بما فيها فرنسا، كندا، وحتى بريطانيا أعلنت رسميا اعترافها أو عزمها على الاعتراف بدولة فلسطينية في سبتمبر 2025، وأن هذا الاعتراف امتدادا لسياساتهم الخارجية القائمة على دعم حل الدولتين. لكن في المقابل، لم تتخل بعض هذه الدول عن دعمها السياسي والعسكري لإسرائيل، مما يكرس التناقض الذي يضع الاعتراف في خانة الرمزية.

في حادث لافت، أعلن رئيس الوزراء الإيطالي أن إيطاليا ستعترف بفلسطين فقط إذا أُفرج عن جميع الرهائن الإسرائيليين في غزة واستُبعدت “حماس” من السلطة الحاكمة في القطاع. بينما انتقد الرئيس الأميركي ترامب تلك الاعترافات واعتبرها “مكافأة لحماس” عن جرائمها عام 2023.

وبينما دافعت دول مثل أستراليا عن قرارها بالاعتراف مشروطة بمراجعة السلطة الفلسطينية، رأت هذه الدول أنها تهدف لإحياء أمل الحل الثنائي، لكن بدون عبور فعلي نحو إجراءات واقعية.

لماذا الاعتراف وحده لا يكفي؟

حسب تقديرات المنظمات المتخصصة، فلسطين معترف بها من حوالي 157 دولة من أصل 193 عضوا في الأمم المتحدة، أي نحو 81٪ من المجتمع الدولي. كما تبيّن من التحليلات أن الاعتراف يعطي مكانة قانونية أفضل للفلسطينيين في المحافل الدولية مثل المحكمة الجنائية الدولية والهيئات الدولية، لكنه ليس كافيا لفرض التغيير على الأرض.

في مقال رأي بصحيفة أتلانتيك، تشدد على أن الاعتراف هو رسالة رمزية في الأساس، لكنه لا يغيّر السياسات الأميركية أو الإسرائيلية إلا إذا رافقته مقترحات ملموسة لإحياء العملية السياسية والدبلوماسية بضغط حقيقي.

وهذا التأكيد يتقاطع مع دعوة البرغوثي بأن الاعتراف بدولة فلسطينية يجب أن يُترجم إلى أدوات ردع حقيقية.

ختاماً، الاعتراف بدولة فلسطينية ضرورة سياسية ورمز دولي مهم، لكنه بلا إجراءات تولد تغييرا فعليا يظل في إطار الشعار. وعلى الدول التي تعترف أن تتبنى خطوات ملموسة: عقوبات على الاحتلال، وقف الدعم العسكري، وقيود اقتصادية لردع الانتهاكات.

كما أنه على الفلسطينيين أن يجمعوا الصفوف، وأن يُدمج الاعتراف بمخطط متزامن لإعادة البناء في غزة، واستثمار القوة الدعائية والموقف القانوني لتقديم إسرائيل أمام محاكم دولية. باختصار، الاعتراف بدولة فلسطينية قد يكون خطوة تاريخية، لكنه إذا بقي بلا ضغط ولا مسؤولية دولية، فلن يتجاوز كونه إعلانا سياسيا جميلا في صفحات الصحف والمواقع.

المصدر: مسقط 24

→ السابق

اللجنة الأولمبية العُمانية تشارك في “آيتشي–ناغويا 2026”

التالي ←

لقاءات دبلوماسية موسعة لوزير الخارجية العُماني في نيويورك

اترك تعليقاََ

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

الأكثر قراءة