في خطوة أثارت الكثير من علامات الاستفهام، أعلنت شركة أرامكو السعودية عن اقتراض 5 مليارات دولار من خلال إصدار سندات دولية، وهي المرة الأولى منذ نحو ثلاث سنوات التي ترتفع فيها ديون الشركة إلى هذا المستوى. هذه الخطوة تزامنت مع انخفاض ملحوظ في أرباح الشركة وتراجع في التدفقات النقدية الحرة، ما يطرح تساؤلات جوهرية حول أولوياتها المالية في ظل السياسات الاقتصادية التي تنتهجها المملكة في إطار “رؤية 2030”.
رغم أن الاقتراض يعد أداة تمويلية طبيعية لأي شركة كبرى، فإن توقيت ومبررات هذا التحرك المالي من شركة أرامكو السعودية، التي لطالما افتخرت بملاءتها المالية وقوتها السوقية، يستوجب تحليلا متعمقا، خاصة حين نربط هذه التطورات بواقع الاقتصاد السعودي وطبيعة الالتزامات المالية التي تتحملها الشركة نيابة عن الدولة.
لماذا تقترض شركة أرامكو السعودية؟
تشير البيانات المالية إلى أن أرباح شركة أرامكو السعودية انخفضت بنسبة 12.4% في عام 2024 لتصل إلى 106.25 مليارات دولار، نتيجة لتراجع أسعار النفط وانخفاض الكميات المصدرة. الأهم من ذلك، أن التدفقات النقدية الحرة للشركة تراجعت إلى نحو 85.3 مليار دولار، وهو ما يقل بكثير عن حجم التزاماتها المتعلقة بتوزيع الأرباح التي بلغت أكثر من 124 مليار دولار خلال نفس الفترة. وفي آخر إحصائية تراجعت الأرباح 4.6% في الربع الأول من عام 2025.
هذا الفارق الكبير بين العائدات والتوزيعات يشير إلى أزمة تمويلية، دفعت بالشركة إلى خيار الاقتراض، في وقت تسعى فيه المملكة إلى تمويل مشاريع رؤية 2030 العملاقة، والتي تعتمد جزئيا على تدفقات مالية من أرامكو، سواء عبر الأرباح أو الضرائب أو حتى التمويلات غير المباشرة.
من هنا، يبدو أن قرار الاقتراض لم يكن خيارا استراتيجيا حرا بقدر ما كان استجابة لضغوط مالية ناتجة عن سياسات إنفاق توسعية تقودها الدولة، وتضع الشركة في موقف دفاعي.
الديون وسيلة أم عبء؟
تتمتع شركة أرامكو السعودية بتصنيف ائتماني مرتفع، ما يمنحها قدرة أكبر على الاقتراض بشروط ميسرة. لكن هذا لا يلغي حقيقة أن اللجوء إلى الديون في ظل تراجع العوائد الأساسية قد يتحول إلى عبء ثقيل، خاصة إذا ما استمر تذبذب أسعار النفط عالميا، واستمرت الدولة في الاعتماد على الشركة كمصدر تمويل دائم لخططها الطموحة.
المفارقة أن الشركة، في الوقت الذي تعاني فيه من ضغوط مالية واضحة، لا تزال تلتزم بتوزيع أرباح سخية للغاية. وهنا يبرز التساؤل: هل يُفضل إعادة توجيه هذه السيولة نحو دعم المركز المالي للشركة والاستثمار في التنوع الاقتصادي، أم أن أولويات الدولة في الوقت الراهن تفرض واقعا آخر؟
المخاطر على الاقتصاد الكلي
اقتراض شركة أرامكو السعودية لا ينعكس فقط على موازنتها، بل يمتد تأثيره إلى المنظومة المالية والاقتصادية الأوسع في المملكة. تشير تقارير إلى أن نسبة القروض إلى الودائع في البنوك السعودية بلغت نحو 97.8%، وهو ما يعكس ضغطا واضحا على السيولة في النظام المصرفي.
في هذا السياق، فإن استمرار اعتماد الدولة على أرامكو كمصدر تمويل رئيس، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، قد يؤدي إلى تعطيل قدرات البنوك على تمويل قطاعات أخرى حيوية، مما ينعكس سلبا على وتيرة النمو الاقتصادي، ويقوض خطط التنويع التي تتبناها رؤية 2030.
أرامكو بين الطموح والواقع
رؤية السعودية 2030 مشروع وطني ضخم وطموح، يهدف إلى تحويل الاقتصاد السعودي من اقتصاد يعتمد بشكل رئيسي على النفط إلى اقتصاد متنوع ومستدام. وتلعب شركة أرامكو السعودية دورا محوريا في هذه الرؤية، سواء عبر ما توفره من أرباح ضخمة للدولة أو من خلال استثماراتها في قطاعات جديدة كالهيدروجين والطاقة الشمسية. لكن هنا تظهر المعضلة: إلى أي مدى يمكن تحميل شركة أرامكو السعودية مسؤولية تمويل هذا التحول دون أن يؤثر ذلك على بنيتها المالية وقدرتها التنافسية في الأسواق العالمية؟
في السنوات الأخيرة، تحوّلت أرامكو من مجرد شركة نفطية عملاقة إلى أحد أذرع الدولة التمويلية، ما جعلها عرضة لتناقضات جوهرية: فهي مطالبة بالاحتفاظ بمستوى عالٍ من الأرباح لتلبية تطلعات الدولة المالية، وفي الوقت نفسه يُنتظر منها أن تستثمر بكثافة في الابتكار والتكنولوجيا والطاقة النظيفة لتبقى لاعبا عالميا على المدى الطويل.
المفارقة أن هذه التطلعات المتضاربة تأتي في وقت يمر فيه قطاع الطاقة العالمي بتحولات سريعة: المنافسة تتسع، والسياسات البيئية الغربية تضغط باتجاه تقليل الاعتماد على الوقود الأحفوري، والاستثمارات في الطاقات النظيفة تتسارع بشكل غير مسبوق. إذا لم تملك أرامكو حرية التصرف المالي والاستثماري الكافي، فقد تجد نفسها متأخرة في السباق، رغم إمكاناتها الكبيرة.
أكثر من ذلك، فإن الاستثمارات التي يُطلب من شركة أرامكو السعودية المساهمة فيها داخليا – من مشاريع نيوم، إلى الخط الحديدي، إلى صناعات غير نفطية – ليست دائما ضمن صلب اختصاصها، بل تخرج أحيانا عن إطار عملها كشركة طاقة. وهذا يطرح إشكالية استراتيجية: هل المطلوب من أرامكو أن تظل شركة نفط رائدة عالميا أم أن تتحول إلى محرك شامل للاقتصاد الوطني؟
الواقع يقول إن قدرة شركة أرامكو السعودية على الصمود في وجه التحولات العالمية مرتبطة باستقلالها المالي وقدرتها على اتخاذ قرارات استراتيجية بعيدا عن الضغوط الحكومية، وهو أمر يبدو أكثر صعوبة في المرحلة الراهنة.
ختاماً، اقتراض شركة أرامكو السعودية 5 مليارات دولار ليس مجرد حدث مالي عابر، بل هو مؤشر على أزمة أعمق تتعلق بتوازن العلاقة بين الدولة والشركة، وبين الطموحات الاقتصادية والموارد المتاحة. إن استمرار هذا النهج في استنزاف موارد الشركة من أجل تغطية سياسات الإنفاق الواسع قد يؤدي إلى تآكل قوتها السوقية وتقليص قدرتها التنافسية على المدى المتوسط.
تحتاج المملكة اليوم إلى إعادة تقييم أولوياتها المالية في ضوء المتغيرات العالمية، وإلى منح شركة أرامكو السعودية مساحة أكبر من الاستقلال المالي كي تحافظ على مكانتها، لا أن تتحول إلى مجرد “صرافة” تمول المشاريع الوطنية بأي ثمن.
المصدر: مسقط 24
