عاد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى واجهة الأحداث الدولية من بوابة المال والنفوذ، مستعينا بحضوره الشعبوي وحنكته التجارية في إعادة نسج خيوط علاقاته مع الدول الخليجية الغنية، وتحديدا السعودية، والإمارات، وقطر. وبينما يستعد لخوض الانتخابات الرئاسية الأميركية القادمة، اختار ترامب أن يجوب العواصم الخليجية لا بصفة رسمية، بل كرجل أعمال طامع يسعى لجمع الدعم السياسي والمالي من أنظمة لطالما اعتبرها “بقرة حلوب” تخدم مصالح أميركا متى شاءت.
لكن المفارقة أن تلك الأنظمة نفسها، التي وصفها ترامب بازدراء خلال دورة رئاسته الأولى، عادت لتستقبله بحفاوة، بل وتقدم له الهدايا والاستثمارات على طبق من ذهب. فالإمارات تتعهد بالاستثمار في عملته الرقمية، وقطر تهديه طائرة فاخرة، والسعودية تفتح له خزائنها مرة أخرى في تكرار مأساوي لعقود من التبعية المالية والاستراتيجية.
منذ دخوله إلى المعترك السياسي، لم يُخفِ دونالد ترامب حقيقته كرجل أعمال تجاري، تُقاس علاقاته بالمصالح المالية، وتُبنى قراراته على لغة الربح والخسارة. وفي زيارته الأولى إلى السعودية عام 2017، وضع بصمته الشهيرة حين أبرم صفقات تجاوزت قيمتها 400 مليار دولار، وتفاخر علنا أنه “أخذ من السعودية ما لم يأخذه أي رئيس أميركي من قبل”.
لم يكن ترامب يخجل من استغلال مكانته الرئاسية لتمرير مصالحه الخاصة، سواء عبر صفقات سلاح أو عقود استثمارية تصب في جيوب شركاته، أو حتى في تحصيل دعم غير مباشر لمشاريعه السياسية. واليوم، بعد عودته إلى البيت الأبيض مجددا، لا يزال يُمارس ذات التكتيك القديم ولكن بغطاء جديد: استثمار الخليج في مشاريعه الخاصة، من دون أي ضمانات سياسية أو اقتصادية على المدى البعيد.
الرئيس الأمريكي دونالد ترامب والسعودية
ربما تكون السعودية هي الحلقة الأضعف والأكثر إحراجا في هذه الزيارة، ليس فقط لأنها فتحت أبوابها بحفاوة كبيرة مرة أخرى أمام ترامب، بل لأنها تفعل ذلك بعد سنوات قليلة من وصفه المهين لها بأنها “بقرة تحلبها أميركا متى شاءت”، ثم تُذبح حين يجف ضرعها.
وبدلا من أن تُعيد السعودية صياغة علاقتها بالولايات المتحدة وفق شروط نِدية قائمة على المصالح المتبادلة، نراها تُمعن في السير وراء رئيس، لم يُظهر أي احترام لسيادتها، ولا لرؤيتها الاستراتيجية، بل استغلها دائما كصندوق مالي مفتوح. فقد وقع ترامب مع ولي العهد السعودي محمد بن سلمان اتفاقية “شراكة اقتصادية استراتيجية” تتضمن استثمارات سعودية بقيمة 600 مليار دولار في الولايات المتحدة على مدى أربع سنوات، مع إمكانية زيادتها إلى تريليون دولار.
وإذا كانت زيارات بايدن أكثر برودا وأقل وعودا، فربما يكون ذلك درسا ضروريا للسعودية كي تدرك أن السياسة ليست مجرد ودائع وصفقات، بل شراكة مؤسساتية تدوم، لا تحالفات شخصية تتبدد مع انتهاء الولاية.
هدية قطرية ثمينة
وفي مشهد لا يقل إثارة، حظي ترامب باستقبال رسمي فاخر، شمل موكبا من سيارات “سايبرتراك” التابعة لتسلا، وحراسة مشددة من القوات الخاصة القطرية. كما تم منحه طائرة بوينغ 747-8 فاخرة، يُعتقد أنها ستُستخدم كـ”إير فورس وان” جديدة.
بالإضافة إلى ذلك، أعلنت الخطوط الجوية القطرية عن صفقة لشراء 210 طائرات بوينغ، بقيمة تُقدّر بمليارات الدولارات، مما يعزز الشكوك حول تداخل المصالح التجارية لترامب مع دوره السياسي.
وهنا فُتح باب التساؤلات حول منطق العلاقات الثنائية: هل تتحول الدبلوماسية إلى ساحة لتبادل الهدايا بين الأفراد بدلا من المصالح بين الدول؟ وهل يليق بدولة بحجم قطر، التي تبذل جهودا دبلوماسية هائلة في واشنطن، أن تقدم هذا النوع من الولاء العلني لرئيس ما زال يحمل سجلا حافلا بالتصريحات المهينة حتى تجاه حلفائه؟
استثمارات إماراتية
ما يثير الدهشة هو تعهد الإمارات مسبقا بضخ استثمارات كبيرة في العملات الرقمية المرتبطة بترامب على الرغم من أنها لا تزال محل جدل واسع في الأوساط المالية الأميركية، نظرا لافتقارها إلى الشفافية والضمانات، وارتباطها المباشر بصورة ترامب السياسية، ما يجعلها عرضة لتقلبات شعبية أكثر منها اقتصادية.
واختتم ترامب جولته بحضور مأدبة عشاء رسمية في قصر الوطن، وأشاد بالعلاقات القوية بين الولايات المتحدة والإمارات. وشملت الزيارة أيضا مناقشات حول التعاون في مجالات الدفاع والتكنولوجيا، وسط تقارير عن صفقات تجارية ضخمة بين شركات مرتبطة بترامب ومسؤولين إماراتيين.
وفي بلد يسعى لتقديم نفسه كعاصمة للذكاء الاصطناعي والاقتصاد الرقمي، تبدو الإمارات وكأنها تورّط نفسها في مشروع دعائي يخدم شخصا واحدا. فهل تصب هذه الأموال في مصلحة الاقتصاد الإماراتي أم أنها مجرد “تذكرة ولاء” تُشترى لحسابات مستقبلية في البيت الأبيض؟
ختاماً، جولة ترامب في الخليج تثير مخاوف جدية بشأن تداخل مصالحه الشخصية مع دوره كرئيس للولايات المتحدة. الاستثمارات الضخمة والهدايا الفاخرة التي تلقاها تطرح تساؤلات حول مدى تأثير هذه العلاقات على قرارات السياسة الخارجية الأميركية، وتُبرز الحاجة إلى مزيد من الشفافية والمساءلة لضمان أن تُخدم المصالح الوطنية، لا الشخصية.
كما أن زيارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الأخيرة تكشف بوضوح أزمة عميقة في فهم العلاقات الدولية لدى بعض الأنظمة العربية. فبدلا من أن تُبنى هذه العلاقات على المصالح المتبادلة والتفاهم المؤسسي، نجدها تنحرف نحو الولاء الشخصي والاستثمار في الرموز لا البرامج. وذلك لا يُبشر بمستقبل مستقر، بل يُعيدنا إلى دوامة الاستغلال الأميركي، حيث يُنظر إلى الخليج فقط كمصدر مال لا كشريك سياسي.
إن الوقت قد حان لمراجعة هذه السياسات بجرأة، وفهم أن مكانة الدول لا تُبنى على الرضى الأميركي، بل على السيادة والاستقلال الاقتصادي.
المصدر: مسقط 24
