استضافت الرياض وتستضيف بطولة كأس العالم للرياضات الإلكترونية، في حدث يوصف إعلاميا بأنه نقلة نوعية في صناعة الترفيه والألعاب، لكنه يحمل في عمقه أبعادا سياسية شديدة الحساسية. فبينما تعرض البطولة على أنها منصة عالمية تجمع اللاعبين من مختلف الدول، تكشف مشاركة فرق ولاعبين إسرائيليين عن مشروع أوسع: تمرير التطبيع مع الاحتلال عبر الرياضة والفعاليات الترفيهية، في وقت ما تزال غزة تنزف تحت القصف والإبادة الجماعية.
إنها لحظة تختصر فلسفة “رؤية 2030” التي تجعل من الأضواء والبطولات وسيلة لتلميع الاحتلال وتبييض صورته أمام العالم.
كأس العالم للرياضات الإلكترونية: الترفيه كجسر للتطبيع الناعم
بطولات الألعاب الإلكترونية لم تعد مجرد منافسات شبابية. إنها صناعة بمليارات الدولارات، وجمهور عالمي يتجاوز مئات الملايين. السعودية أدركت هذه الحقيقة، فاستثمرت من خلال صندوق الاستثمارات العامة وشركة Savvy Gaming Group مليارات الدولارات لجعل الرياض “عاصمة الألعاب الإلكترونية”. لكن استضافة لاعبين إسرائيليين في قلب المملكة، خصوصا في فعاليات مثل كأس العالم للرياضات الإلكترونية، حولت المشهد من مجرد منافسة إلى منصة تطبيع علني.
لم يعد الأمر حادثة عابرة؛ بل سياسة ثابتة يعترف بها مسؤولون سعوديون، حيث أكد وزير الرياضة عبد العزيز بن تركي الفيصل أن الرياضيين الإسرائيليين يتنافسون بالفعل في المملكة حتى في ظل الحرب على غزة. هذه المشاركة المتكررة ليست مجرد “رياضة”، بل هندسة للوعي العام، حيث يراد للجماهير أن تربط اسم إسرائيل بالألعاب والجوائز لا بالاحتلال والقمع.
خلف الكواليس، تكشف البطولة عن تناقض صارخ. فبينما يُسوّق كأس العالم للرياضات الإلكترونية كواجهة للحداثة والانفتاح، يعتمد نجاحه على جيش من العمالة الوافدة التي تتحمل ظروفا قاسية: ساعات عمل طويلة، أجور متأخرة، وغياب ضمانات صحية وسكنية.
المشهد يكرر ما حدث في مشاريع عملاقة مثل نيوم والقدية، حيث تبنى صورة براقة في الأعلى على حساب استغلال في الأسفل. في الوقت نفسه، يمنع أي تعبير شعبي عن التضامن مع غزة داخل السعودية، بينما يفتح الباب أمام لاعبين إسرائيليين للمشاركة بحرية، في ازدواجية فاضحة بين قمع التضامن مع الضحايا وتطبيع العلاقة مع الجلادين.
رؤية 2030 بين الاستثمار والدعاية
تقدم الرياض هذه البطولات باعتبارها جزءا من “تنويع الاقتصاد” ضمن رؤية 2030، لكن التجربة أثبتت أن العوائد المالية المباشرة محدودة مقارنة بالمليارات التي تضخ في التنظيم والدعاية. تقارير متخصصة تشير إلى أن سوق الألعاب الإلكترونية في السعودية بلغ نحو 1.3 مليار دولار في 2024، مع توقعات بوصوله إلى 6.8 مليار دولار بحلول 2030.
لكن هذه الأرقام تبقى ضئيلة أمام عشرات المليارات التي استثمرت في الاستحواذ على شركات ألعاب عالمية وتمويل بطولات كبرى مثل كأس العالم للرياضات الإلكترونية. الهدف الحقيقي ليس اقتصادا مستداما، بل شرعنة سياسية وتجميل صورة النظام السعودي أمام الغرب والعالم، حتى لو كان الثمن التطبيع مع الاحتلال.
من الرياضة إلى السياسة
إن استضافة السعودية لبطولات مثل كأس العالم للرياضات الإلكترونية ليست خطوة بريئة أو محايدة. إنها جزء من استراتيجية أوسع لتوظيف الرياضة والفن والترفيه في مشروع “الغسيل الرياضي” أو الـSportswashing، الذي يهدف إلى تلميع صورة النظام وتبييض سجل الاحتلال الإسرائيلي في آن واحد. من السوبر الأوروبي إلى الفورمولا 1، ومن بطولات الجولف إلى كأس العالم 2034، يتكرر نفس النمط: إنفاق ضخم على فعاليات رياضية كبرى، وتجاهل كامل للانتهاكات الحقوقية والسياسية.
ومع دخول لاعبين إسرائيليين إلى الرياض في وقت تتعرض فيه غزة لمجازر يومية، يتأكد أن الهدف ليس الرياضة أبدا، بل تطبيع الاحتلال وتحويل وجوده إلى واقع مألوف في عيون الجماهير.
ختاماً، بينما تضاء شاشات الرياض بألوان البطولة وترفع الأعلام في ملاعب الألعاب الإلكترونية، تبقى الحقيقة القاسية أن الدم الفلسطيني يسال في غزة بينما يكرم الاحتلال في قلب المملكة. بطولة كأس العالم للرياضات الإلكترونية تكشف أن الترفيه لم يعد مجرد نشاط شبابي بريء، بل أداة سياسية خطيرة لتبييض الاحتلال وتمرير التطبيع تحت غطاء المنافسة العالمية. إنها لعبة أكبر من الرياضة، حيث تتحول المنصات الرقمية إلى ساحات سياسية، ويتحول التطبيع إلى مشهد اعتيادي تفرض قبوله على الجماهير عاما بعد عام.
المصدر: مسقط 24
