من تيانجين الصينية خرجت قمة منظمة شنغهاي للتعاون هذا العام برسائل واضحة تتجاوز المراسم إلى هندسة ملامح التوازنات الدولية؛ رسائل تتقاطع عند فكرة عالم متعدد الأقطاب وتحدي مركزية القوة في النظام الدولي. فقد شدد بيان القمة وتصريحات القادة على احترام السيادة ورفض الإملاءات وعقليات الحرب الباردة، مع حضور لافت لقادة الصين وروسيا والهند ودول آسيا الوسطى وإيران وبيلاروس، في أكبر تجمع للمنظمة حتى الآن.
ويعتبر هذا الحشد غير المسبوق بمثابة إشارة قوية على أن دولا عدة باتت ترى في المنظمة مظلة بديلة تتيح لها العمل بعيداً عن الضغوط الغربية. كما أن تعاظم مشاركة قوى كبرى كالهند وإيران يؤكد أن منظمة شنغهاي لم تعد مجرد تكتل إقليمي، بل إطار سياسي وجيوسياسي عابر للحدود.
عالم متعدد الأقطاب: تثبيت الفكرة وإشارات سياسة
على وقع تصاعد التوترات مع الغرب والحرب في أوكرانيا، قدم شي جين بينغ القمة بوصفها منصة لإعادة توازن قواعد اللعبة، منتقدا “التنمر” في النظام الدولي وطارحا تمويلا ومبادرات إضافية لتقوية أطر التعاون الإقليمي. هذه اللغة، التي تتقاطع مع سردية النظام العالمي الجديد (عالم متعدد الأقطاب)، رُصدت بوضوح في خطابات القادة وتقارير صحفية آسيوية وغربية.
وتأتي أهمية هذا التوقيت في ظل محاولات الغرب فرض عزلة اقتصادية وسياسية على روسيا، وهو ما دفع موسكو إلى تعزيز علاقاتها شرقاً ضمن هذا الإطار. كما أن بروز الصين كقاطرة اقتصادية وسياسية عالمية يجعل من القمة فرصة لبكين كي تعلن عن نفسها ليس فقط كقوة عظمى صاعدة، بل كقوة صانعة للمعايير في نظام جديد بـ عالم متعدد الأقطاب.
وأكد الإعلان الختامي على احترام السيادة وعدم التدخل، وربط ذلك بمسار تنموي تعاوني يخفف الاستقطاب، وهو ما قُدم باعتباره خيارا عمليا لترسيخ عالم متعدد الأقطاب بدل التراتبية الأحادية. كما شدد قادة المنظمة على التعاون الأمني ومكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة، ضمن إطار يوازن بين الأمن والتنمية.
ومن اللافت أن الوثيقة الختامية لم تكتف بالشعارات، بل تضمنت خريطة طريق عملية للتنسيق في مجالات الطاقة والنقل والتكنولوجيا. وتُظهر هذه الخطوة أن منظمة شنغهاي باتت قادرة على إنتاج التزامات سياسية قابلة للتنفيذ، لا مجرد بيانات عامة. وقد ربط بعض المحللين هذا الإعلان بما يشبه “ميثاق تأسيسي جديد” يرسخ دور المنظمة في تشكيل قواعد النظام العالمي المقبل.
البعد الاقتصادي: بنك تنمية للمنظمة
من النتائج الملموسة التي برزت هذا العام دفع فكرة إنشاء “بنك تنمية لمنظمة شنغهاي” لتمويل البنية التحتية والبرامج الاقتصادية، وهي فكرة سعت إليها بكين منذ سنوات وتعكس تحوّل أدوات النفوذ عبر التمويل والتنمية، بما يخدم سردية عالم متعدد الأقطاب اقتصاديا لا سياسيا فقط.
واعتبر اقتصاديون أن هذه الخطوة تمثل محاولة لتكرار نجاحات “البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية” ولكن في إطار جيوسياسي أوسع. كما أن وجود روسيا والهند وإيران في هذا المشروع يمنحه وزناً أكبر مقارنة بتكتلات مالية أخرى.
وتذهب بعض القراءات إلى أن هذا البنك سيكون بمثابة “ذراع مالية” بديلة عن المؤسسات الغربية التقليدية مثل صندوق النقد والبنك الدولي، وهو ما يسرع من وتيرة التحول نحو نظام مالي عالمي جديد.
الرسائل إلى الغرب
تتحدث بكين عن “استراتيجية التنمية حتى 2035” لتوجيه عمل المنظمة خلال العقد المقبل، في إطار تصور طويل الأجل للنظام العالمي الجديد. لكن بخلاف السنوات الماضية، أظهرت القمة اختراقاً مهماً في ملف التوافقات، إذ تلاشت الخلافات القديمة بين الصين والهند بعد إعلان نيودلهي انضمامها الكامل إلى هذا المعسكر. وقد اعتُبر هذا التطور إنجازاً استراتيجياً للقمة، حيث يُنهي أحد أكبر معوقات الانسجام داخل المنظمة.
بل إن دخول الهند بفاعلية أعطى زخماً إضافياً لرؤية عالم متعدد الأقطاب، عبر توفير توازن داخلي بين القوى الكبرى المشاركة. كما أن هذا التحول سمح بتوسيع قاعدة التوافق حول القضايا الأمنية والتنموية، بما يعكس أن المنظمة دخلت مرحلة جديدة أكثر انسجاماً وتماسكاً.
لم تعد رسائل قمة شنغهاي غامضة، بل جاءت مباشرة إلى الغرب والولايات المتحدة على وجه الخصوص، مؤكدة أن زمن الهيمنة الأحادية قد انتهى، وأننا نشهد فعلياً ولادة نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب. فخطابات القادة وتصريحاتهم شددت على أن لا مكان بعد اليوم لإملاءات قوة واحدة تتحكم بمصائر الشعوب. كما أن الاستعراضات الرمزية والتأكيد على السيادة شكلت رسالة واضحة بأن المنظمة تمثل صوتاً جماعياً بديلاً عن “النظام القديم”.
وبذلك، فإن الغرب يواجه تحدياً استراتيجياً غير مسبوق يتمثل في ظهور تكتل متماسك يسعى إلى إعادة كتابة قواعد اللعبة الدولية. ومن ثم، فإن قمة تيانجين يمكن اعتبارها نقطة تحول في مسار العلاقات الدولية، حيث تتكرس معادلة جديدة قوامها التعددية والندية وتراجع نفوذ النموذج الغربي التقليدي.
ختاماً، قمة تيانجين لم تكن مجرد اجتماع روتيني، بل محطة تراكمية في صياغة سردية عالم متعدد الأقطاب عبر أدوات سياسية واقتصادية ورمزية: إعلان يؤكد السيادة، دفع لمؤسسات تمويل مشتركة، وخطة زمنية تمتد حتى 2035، مع نجاح في إنهاء الخلافات بين أعضائها الكبار بانضمام الهند الكامل إلى هذا التوجه. وبذلك، فإن المنظمة لا تعكس فقط طموح الصين وروسيا، بل إرادة جماعية لدول عديدة لإعادة توزيع موازين القوة العالمية. ومع أن طريق النظام العالمي الجديد لا يزال مفتوحاً على اختبارات عملية وتحديات من الغرب، إلا أن زخم القمة يعزز حقيقة أن مرحلة الهيمنة الأحادية قد ولت، وأن العالم يتجه نحو تعددية حقيقية في مراكز صنع القرار.
المصدر: مسقط 24
