في ظل صمت العديد من الدول العربية أو الاكتفاء بتصريحات دبلوماسية ضعيفة بعد إعلان وقف إطلاق النار في غزة، أكدت حكومة جنوب أفريقيا موقفها الثابت تجاه الجرائم التي يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي، مؤكدة أنها ستواصل الدعوى المرفوعة ضده أمام محكمة العدل الدولية بتهمة الإبادة الجماعية.
تبرز هذه الخطوة التناقض الواضح بين دول لم تمر بتجربة الاحتلال لكنها تتضامن مع الضحايا، وبين أنظمة عربية اكتفت بالرهان على “سلام أمريكي الصنع” لا يحمي سوى المعتدي.
حكومة جنوب أفريقيا: استمرار الدعوى
أشارت وزارة العلاقات الدولية والتعاون في بيان رسمي إلى أن وقف إطلاق النار لا ينهي الجرائم ولا يرفع المسؤولية القانونية عن مرتكبيها، مشددة على أن الدعوى أمام محكمة العدل الدولية تهدف إلى منع تكرار الانتهاكات، وليس مجرد وقف مؤقت للأعمال العدائية.
وجاء في البيان أن العدالة الحقيقية تقتضي محاسبة المسؤولين عن الانتهاكات بغض النظر عن الهدنة المعلنة.
هذا الالتزام ينبع من التاريخ النضالي لجنوب أفريقيا، التي قاومت نظام الفصل العنصري، مما أعطاها منظورا أخلاقيا راسخا في الدفاع عن الشعوب المقهورة، لا سيما الشعب الفلسطيني الذي ترى فيه انعكاسا لمعاناتها السابقة. إذ قادت بريتوريا جهودا دولية غير مسبوقة، منذ بداية العدوان على غزة أواخر 2023، شملت رفع الدعوى أمام محكمة العدل الدولية واستدعاء السفير الإسرائيلي وطرده من أراضيها.
القانون الدولي والضغوط
رفعت حكومة جنوب أفريقيا في ديسمبر 2023 دعوى قضائية ضد إسرائيل تتهمها بارتكاب جرائم ترقى إلى الإبادة الجماعية ضد المدنيين في غزة. وفي يناير 2024، أصدرت محكمة العدل الدولية قرارا طالبت فيه إسرائيل باتخاذ خطوات عاجلة لحماية المدنيين وضمان وصول المساعدات الإنسانية إلى القطاع.
مع إعلان وقف إطلاق النار، أكدت حكومة جنوب أفريقيا أن القضية ستستمر دون توقف، لأن العدالة لا يمكن تعليقها بسبب هدنة مؤقتة، حيث ستواصل المحكمة النظر في جوهر الدعوى، ما قد يستغرق سنوات، لكن استمرارها يضع الاحتلال تحت مراقبة القانون الدولي ويقيد روايته التي تبرر المجازر باسم “محاربة الإرهاب”.
وأكد وزير خارجية جنوب أفريقيا، رونالد لامولا، التزام بلاده بمواصلة القضية رغم الضغوط والتهديدات الأمريكية، مشيرا إلى أن الحفاظ على المبادئ له عواقب، لكنه ضروري لحماية سيادة القانون على الصعيد الدولي. وقد أدى هذا الموقف إلى قرار أمريكي بوقف المساعدات المالية لجنوب أفريقيا، لكن ذلك لم يثن بريتوريا عن تعزيز تحالفاتها مع دول مثل البرازيل وماليزيا وبوليفيا لدعم القضية.
غياب التحرك العربي
في المقابل، شهدت الساحة العربية غيابا شبه كامل لأي تحرك حقيقي لدعم القضية الفلسطينية أمام المحكمة الدولية، حيث اقتصرت ردود الفعل على بيانات عامة أو تصريحات دبلوماسية روتينية لا تتجاوز التعبير عن “القلق” أو “التطلع لوقف إطلاق النار”. الجامعة العربية، على سبيل المثال، اكتفت بإصدار بيان يطالب بتهدئة الأوضاع دون الإشارة صراحة إلى محاسبة مرتكبي الجرائم أو دعم الدعوى الدولية، فيما فضلت بعض الحكومات العربية، وخصوصا تلك التي أقامت اتفاقيات تطبيع مع تل أبيب، التزام الصمت أو التركيز على تثبيت الهدنة فقط.
هذا الغياب يعكس تراجعا واضحا في الالتزام السياسي والأخلاقي تجاه الشعب الفلسطيني، ويكشف أن بعض الأنظمة العربية فضلت المصلحة الاقتصادية والسياسية على العدالة، متناسية المسؤوليات التاريخية والأخلاقية التي يفرضها القانون الدولي وحقوق الإنسان. بالمقابل، وضعت حكومة جنوب أفريقيا نفسها كقوة مدافعة عن العدالة الدولية، محافظة على استقلالية موقفها رغم الضغوط الأمريكية والغربية، ومؤكدًا أن حماية المدنيين ومحاسبة الاحتلال ليست مجرد شعارات بل واجب قانوني مستمر.
كما يظهر هذا التباين مدى الانقسام في الرؤية العربية تجاه العدوان الإسرائيلي على غزة، إذ بينما تسعى بعض العواصم إلى إعادة تطبيع العلاقات وتجميل صورة الاحتلال، تستمر حكومة جنوب أفريقيا في حشد الدعم الدولي للقضية الفلسطينية، معتبرة أن الغياب العربي لا يعفي المجتمع الدولي من مسؤولياته القانونية والأخلاقية، وأن العدالة المؤجلة تظل أفضل من الصمت أو المساومة على حقوق الشعب الفلسطيني.
رسالة للعالم
تسعى حكومة جنوب أفريقيا عبر قضيتها إلى ترسيخ مبدأ عدم الإفلات من العقاب في العالم، حتى لو استمرت الإجراءات لسنوات، معتبرة أن القضية تمثل سابقة قانونية وأخلاقية تكشف ازدواجية المعايير الغربية التي تدعي الدفاع عن حقوق الإنسان بينما تتجاهل جرائم حليفها الإسرائيلي.
ونجحت حكومة جنوب أفريقيا في وضع الاحتلال في قفص الاتهام أمام أعلى محكمة دولية، ما يعيد التأكيد على أن النضال القانوني يمكن أن يكون شكلاً من أشكال المقاومة، خصوصا في ظل تخاذل الحكومات العربية.
ختاماً، بينما تنشغل بعض الأنظمة العربية في إعادة فتح السفارات أو ترتيب العلاقات مع واشنطن، تواصل حكومة جنوب أفريقيا مسيرتها بثبات لإثبات أن العدالة لا تقايض بالمصالح ولا تشترى بالعقوبات، مؤكدة أن الهدنة لا تمحو المجازر وأن العدالة تبقى واجبا أخلاقيا وقانونيا.
المصدر: مسقط 24
