في تطور درامي يكشف عن تحول مفصلي في الصراع، فرض صمود المقاومة الكبير معادلة ميدانية جديدة على إسرائيل، تجلت في بدء ثلاث إلى أربع فرق عسكرية من قوات جيش الاحتلال الإسرائيلي بالانسحاب التدريجي من مدينة غزة والمخيمات المحيطة بها، في خطوة تعد بداية تنفيذ المرحلة الأولى من اتفاق وقف إطلاق النار وتبادل الأسرى.
وفقاً لهيئة البث الإسرائيلية، باشرت القوات الإسرائيلية عمليات الانسحاب من القطاع، تمهيداً لإعادة التموضع خلف ما يُعرف بـ “الخط الأصفر” المتفق عليه في خطة الرئيس الأميركي. كما ورد أن الجيش الإسرائيلي يخشى حدوث احتكاكات مع المدنيين الفلسطينيين الذين قد يحاولون العودة شمالاً، مما يدفعه إلى التراجع التدريجي من الأحياء المكتظة.
مصدر عسكري لقناة “كان” أوضح أن الانسحاب سيتم على مراحل، تبدأ خلال 24 ساعة من المرحلة الأولى، تليها تحركات إلى المناطق الجنوبية والوسطى، تستعد بعدها إعادة هيكلة خطوط الدفاع وضبط الحدود الجديدة مع المستوطنات المحاذية للقطاع.
كما تقول تحليلات عسكرية إن هذا التراجع يعكس اعترافاً ضمنياً بفشل الحسم الميداني، إذ إن إسرائيل لم تتمكن طوال عامين من السيطرة الكاملة على الأرض، رغم التفوق الجوي والضربات الشاملة، فيما بقيت المقاومة قادرة على الصمود والتحدي بأن “صمود المقاومة الكبير هزيمة للاحتلال”.
ووصف خبير عسكري الانسحاب بأنه يختلف عن انسحابات سابقة، من حيث التنظيم والإجراءات، مشيراً إلى أن سحب الألوية المقاتلة بأكملها مثل الفرقة 36 واللواء المدرع 401 يشي بتكتيك ممنهج وليس تراجعاً عشوائياً.
صمود المقاومة الكبير: هزيمة لإسرائيل
في واشنطن، أعلن الرئيس الأميركي أن إسرائيل وحركة حماس توصلا إلى اتفاق يشمل وقف إطلاق النار وتبادل الأسرى، إلى جانب الانسحاب التدريجي إلى مواقع متفق عليها.
لكن كثيراً من المحللين يؤكدون أن هذا الاتفاق ليس نصراً لإسرائيل، بل نتيجة لتوازن ميداني فرضته المقاومة، فصمود المقاومة الكبير دفع إسرائيل للاقتراب من خيار السلام كبديل عن المرور بخسائر أكبر.
في الداخل الإسرائيلي، يُنظر إلى الاتفاق كإجراء تكتيكي إلا أن الضغط المتزايد وسط احتجاجات على أثمان الحرب واستنزاف الاقتصاد زاد من إلحاح اعتماد صيغة تفاوضية بدلاً من الحسم الذي فشل به الجيش الإسرائيلي، فحتى بعد الانسحاب ستبقى القدرة على الرد قائمة في حال خرق الاحتلال التفاهم.
وعلى مدى عامين من الحرب العنيفة، لم تنجح إسرائيل في تحقيق أهدافها على الأرض رغم الدمار الشامل والكوادر المهاجمة المكثفة، حيث ارتفع عدد الشهداء الفلسطينيين إلى أكثر من 67 ألف جريح وأكثر من 170 ألف مصاب بآثار الحرب.
إزاء ذلك، تحركت المقاومة الفلسطينية، ممثلة بكتائب القسام وسرايا القدس والفصائل الأخرى، من موقع الدفاع إلى موقع المبادرة؛ أطلقت الصواريخ، نفذت عمليات استنزاف للعدو داخل الخطوط، وحققت قدرات قتالية فعالة في الاشتباك الحضري. هذ الأداء عزز الرؤية بأن صمود المقاومة الكبير لم يكن شعاراً فقط، بل واقعة أثبتتها نتائج الصراع.
ورغم الضربات القاسية التي أصابت المقاومة وكوادرها، فإنها أثبتت قدرتها على الصمود أمام آلة عسكرية متطورة ومدعومة أميركيا وغربيا، ونجحت في الحفاظ على بنيتها الأساسية، كما واصلت تكتيكاتها العسكرية وأجبرت الاحتلال على دفع خسائر بشرية وعسكرية كبيرة.
وعندما راهنت إسرائيل على استنزاف الفصائل، بينت الوقائع أنها هي التي استنزفت، ما دفع الولايات المتحدة والوسطاء إلى فرض صيغة وقف النار بعد فشل التكتيكات البرية في تحقيق الحسم.
مصادر فلسطينية عدت الانسحاب الإسرائيلي اعترافاً ضمنياً بهزيمة الاحتلال، وقالت إنه نصر استراتيجي للمقاومة التي فرضت شروطها، معتبرة أن “الخط الأصفر” الذي انسحب إليه الجيش رمز لتراجع إسرائيل عن طموحها بإعادة احتلال غزة بالكامل.
تحديات ما بعد الانسحاب
مع انطلاق الانسحاب، دخلت الحرب في مرحلة جديدة من الترقب والحذر. في هذه المرحلة، يتعين مراقبة مدى التزام إسرائيل بالاتفاق، فرص عودة النازحين، وضمانات إعادة الإعمار.
إسرائيل قد تحاول تصوير الانسحاب كخطوة تكتيكية، لكن في الواقع فإن صمود المقاومة الكبير أفشل أهداف الحرب وأرغم تل أبيب على تعديل استراتيجياتها، وهنا يبقى السؤال الأهم: هل سيكون وقف إطلاق النار ثابتاً أم مؤقتاً؟ الإجابة تعتمد على مدى التزام الاحتلال، ومتابعة تنفيذ الشروط، وقدرة حماس على الحفاظ على المعادلة التي فرضتها: أنها موجودة بقوة وقادرة على الرد والمبادرة.
ختاماً، غزة ورغم الجراح العميقة والدمار الكبير تخرج من تحت الركام بوجه مرفوع، والمقاومة الفلسطينية فرضت على الاحتلال معادلة جديدة تقول إن صمود المقاومة الكبير ليس خياراً فحسب، بل واقع لا يمكن تجاوزه.
المصدر: مسقط 24
